وقد كتب الصحابة الكرام رضوان الله عليهم المصحف على رسم معين، وهو الرسم العثماني، وبقيت أوجه الاختلاف في القراءة بحسب هذا الرسم، وأصبح الرسم عمدة وحجة، حتى إن العلماء تكلموا فيما إذا قرئ بخلاف الرسم هل تعد تلك قراءة صحيحة أم لا؟ وغيرها من المسائل، والمقصود هو الرسم، فقد ذكر شيخ الإسلام في هذه الرسالة مثل قوله: ((وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ))[البقرة:74] أو (عَمَّا يَعْمَلُونَ) فهنا قراءتان، فما الذي يفعله الصحابة رضوان الله تعالى عليهم حيث كان المصحف غير منقوط ولا مشكول؟ فيمكن لأي أحد عنده نفس المصحف بنفس النسخة أن يقرأ بالوجهين، إذاًً هذا ليس فيه اختلاف؛ لأنك إذا قرأت (عما تعملون) أو (عما يعملون) فأنت تقرأ بما يوافق رسم المصحف، وإن كان الأصل في القراءة هو التلقي من فم المشايخ وكذلك الحفظ، ومع هذا الحفظ وهذا التلقي فقد كتب المصحف بوجه يوافق هذه القراءات.
والصحابة رضوان الله عليهم من كمال علمهم وفقههم، ومن حكمة الله سبحانه وتعالى وفضله عليهم وعلى هذه الأمة، أن جعلهم يختارون هذا الرسم لهذا المصحف؛ فأصبح يجمع بين عدة قراءات وهو رسم واحد، وهذا مما لا يمكن أن يكون في لغة غير لغة العرب؛ لأن أي لغة أخرى إنما يكتب الحرف الواحد بنصه؛ بل أحياناً الحرف الذي ينطق حرفاً واحداً يكتب ثلاثة أحرف في الكتابة، لكن في لغة العرب التمييز بين الحروف يكون في النقط وفي الشكل -الضمة والفتحة والكسرة- فلما رسم المصحف العثماني بغير نقط، وبغير تشكيل من حيث الفتحة أو الضمة أو الكسرة أصبح برسمه وبشكله هذا يقرأ على أوجه صحيحة ثابتة، مع أن الاعتماد ليس على مجرد ما كتب وإنما على التلقي والرواية، فكان يطابق بين هذه القراءة، وبين رسم المصحف، وهذه هي هداية من الله سبحانه وتعالى لهذه الأمة، وإعجاز في حق أمة أمية مكنها الله من كتابة كتاب ربها عز وجل على وجه يجتمع عليه المسلمون -من جهة- فلا يختلفون، وهو الرسم العثماني الذي لا يجوز الخروج ولا العدول عنه، ومن جهة أخرى أن هذا الرسم يستوعب الأوجه الثابتة الصحيحة في القراءة، وهذا من أعظم الفضائل لـعثمان رضي الله عنه، حتى إن علياً رضي الله تعالى عنه غبطه على ذلك وقال: [[لو وليت ولم يجمع عثمان القرآن لجمعته]] وهذه شهادة من علي لـعثمان رضوان الله تعالى عليهم جميعاً.